۞ الرُّهاب.. مَرضُ الثَّوْرَةِ المصريَّة



بقلم: أحمد عبد الرحيم
نعم.. وبكلِّ صراحة، لقد أصاب المصريين بعد نجاح ثورتهم ذلك المرض، مرضُ الخوف، الذي إن كان في الماضي خوفًا مبرَّرًا، عانينا منه في ظلِّ العيش تحت القهر والبطش والاستبداد والذل؛  فإنه صار الآن رُهابًا من ممارسات الماضي، ومن المسمَّيات، ومن السلطة بكلِّ أشكالها؛ أمنيةً كانت أو مؤسَّسية أو حتى قانونية.
 ومرضُ الرُّهاب أو الفوبيا أو الخوف اللامنطقي من الأشخاص أو الأشياء، هو أخطر الأمراض – في نظري-  التي أصابت المصريين بعد الثورة، وهو ذاتُه الذي يتسبَّب فيما يعاني منه المصريون اليوم: من فتنةٍ قد تُودِي بوحدة المصريين التي لم تتفكك منذ آلاف السنين، ومن ضياعٍ للأمن في النفوس والمؤسسات والشوارع، وخلقٍ لذلك الجدلِ الساذج حول  حتمية  تطبيق سلطة القانون كحلٍّ للفوضى التي نمر بها، والتي من المُفترَض أن تكون فوق كلِّ السلطات، وهي كذلك في كلِّ دول العالم المتحضِّر، فأصبحنا نرى الدولة تستعين بمشايخَ وقساوسة ورجال مجتمع؛ لحلِّ قضاياها ونزاعات أبنائها، وكأننا نبني وطنًا من جديد، ونبحث لمشاكله عن حلول!
 ومن أشدِّ مظاهر الخوف اللامنطقي عند المصريين اليوم الخوفُ المتبادَل بين رجال الشرطة والمواطنين، والذي لم تُجدِ معه - إلى الآن- كلُّ نداءات (الشرطة والشعب إيد واحدة)، فأصبح الشارع المصريُّ يكاد يخلو من رجال الشرطة، وإن وُجدوا فيه فلتنظيم المرور، أو لأداء وظيفةٍ يخاف صاحبُها أن يُهدَّد بالفصل منها، أو بالسجن إذا اعتدى على أحد المواطنين. أمَّا ما عهدناه – مجازًا- عن رجل الشرطة الذي يُعرف عند المصريين بـ"رجل الأمن" فغير موجود؛ إذ تخلَّى رجل الشرطة المصريّ عن دوره في حماية الأمن طوعًا، كما تخلَّى قسرًا عن سلطة البطش والقهر التي كان يمارسها من قبلُ ضد المواطنين.
وقد بدت أعراض هذه الفوبيا تظهر حينما واجهت الشرطة المتظاهرين بضراوةٍ وعنفٍ أخرق، كَسَرَ - هو نفسُه– حاجزَ الخوف بين الشرطة والشعب، وتعالت هتافات المصريين بعد انسحاب الشرطة المُخزي يوم جمعة الغضب، فردد الثوار: (كلنا لجان شعبية، وهنحمي الجمهورية، من الشرطة البلطجية). ولعلهم نسوا أو أنستهم القنابل المسيِّلة للدموع أنَّ الشرطة كانت هي الأمن، وستظل، وهي التي تحمي الشعب من البلطجية والمجرمين!
ومن مظاهر الفوبيا عند المصريين اليوم، الفوبيا من المسميات، فأصبح المصريُّ لا يطيق أن يسمع عبارة أمن الدولة، أو حالة الطوارئ، حتى إنني سمعت من هتافات ميدان التحرير قولَ الثوار: (بالتلاتة طالق طالق، أمن الدولة والطوارئ)، أي ذهابٍ بلا رجعة. وقد استجابت الحكومة للثوار عملاً بمبدأ الشرعية من التحرير، فألغت مشكورةً حالة الطوارئ، وغيَّرت اسم أمن الدولة إلى الأمن الوطني!
وأنا أكاد أجزم أنَّ الشعب ما زال عنده فوبيا من مجلس الشعب ومجلس الشورى والمجالس المحلية والمحافظين ورؤساء الأحياء، وفوق كلِّ ذلك الفوبيا العظمى من منصب رئيس الجمهورية.
أما فوبيا المصطلحات والأحزاب السياسية فحدِّث ولا حرج، فالإسلاميون بمختلف توجُّهاتهم يخشون من الليبراليين والعلمانيين، وإن زعموا غير ذلك. وهؤلاء بدورهم يستعدُّون لمواجهة المدِّ الإسلامي الذي خلت الساحة أمامه، فبعد أن كانت الجماعة الممثِّلة لذلك التيار تُسمَّى جماعة الإخوان المحظورة، أصبح يُنتظر لها أن يكون حزبها هو حزب الأغلبية في البرلمان!
وارتفعت حدَّة تلك الفوبيا حينما طغى على الساحة المصرية ذلك الصراع الأحمق بين السلفيين والكنيسة حول إسلام هذه أو خطف تلك. وكأنَّ مصر التي هي منذ آلاف السنين بلدٌ للمصريين، نخشى الآن أن تصبح إمارةً سلفية أو فاتيكانًا آخر ولكن للكنيسة الأرثوذكسية الشرقية!
وإن كانت أعراض هذا الخوف اللامنطقي قد لا تبدو واضحةً عند بعض المثقَّفين والكُتَّاب؛ لأنهم يحاولون تجميل الصورة وإظهار الحيادية والموضوعية، والقدرة التنظيرية المطلقة على مواجهة مشاكل الشعب المصري وأزماته؛ إلاَّ أن وجوه الناس في الشوارع ونظراتهم الحائرة، وتصرفاتهم التي هي في كثيرٍ من الأحيان متهوِّرة، كلَّ ذلك يجعل من الضروريِّ أن نبحثَ عن حلٍّ لكلِّ هذا الخوف الذي أصاب المصريين بعد الثورة، والذي أرى أنه خوفٌ طبيعيٌّ بل صحيّ، لجسد أمةٍ عانت لعقودٍ طويلةٍ من خوفٍ جبريّ، أَخْرَسَ لسانَها، وأعمى عينَها، بل وبَلَّد قلب الكثيرين من أبنائها.
وما أطرحه هنا كحلٍّ لهذا المرض: أنَّه كما أنَّ الرُّهاب المرضيَّ ليس كلُّه بدرجةٍ واحدةٍ من الخطورة والضَّرر، كذلك فإنَّ الكثيرَ من هذه المخاوف لدى المصريين هي مخاوفُ وقتية، ولعل بعضها ضروريّ بعد الثورات، كخوفِ المصريين من أمن الدولة والطوارئ ورفضهم للحزب الوطني. ولكنَّ التمادي في هذا الخوف حتى يتحوَّلَ رفضُ أمن الدولة لرفض الشرطة، ورفض الطوارئ لرفض القانون، ورفض الحزب الوطني وممارساته السُّلطوية الموحَّدة، إلى رفض كلِّ فصيلٍ من أبناء الوطن - دينيًّا كان أم سياسيًّا- للفصيل الآخر؛ فهذا هو الرُّهاب الذي ينبغي علينا جميعًا مواجهته.
ولتصمُتْ الآن كلُّ الشعارات ، وليعلُ قولُنا: الشعب يريد أن يحمي ثورته.
 وأيضًا كما أنَّ الرُّهاب المرضي لم ينجع معه أيُّ علاجاتٍ نفسيةٍ وقتية، أو مسكناتٍ وأدويةٍ موضعية، إلا طريقة واحدة للتخلُّص من هذا المرض؛ كذلك فإنَّ التخبُّط والخوف الذي يمرُّ به المصريون ليس له إلا علاجٌ واحد. والعلاج في الحالتين هو: (المواجهة).
ولتبدأ مواجهة الدولة للشعب، بتفعيل سلطة القانون فورًا، أيًّا كان هذا القانون مادامت السلطة التي ارتضاها الشعب ارتأت أنَّ هذا القانون في مصلحته، فعلى أفراد الشعب أن يستجيبَ - طوعًا أو جبرًا- لسلطة القانون، ومَن يخالفه يُعاقَب.
 وليس أمام الشعب إذا بدا له عدم صلاحية هذا القانون إلاَّ أن يتوجَّه للمنافذ الشرعية (البرلمان) لتغييره. وما ارتضى تغييره، يصير متغيره قانونًا يجب تطبيقه واحترامه.
والمواجهة الثانية هي مواجهة الشرطة للشعب وكذلك مواجهة الشعب للشرطة، وليفهم الجميعُ أنَّ الشرطة جهازٌ قانونيٌّ وتنفيذيُّ سُلطويّ، قانوني من حيثُ إنَّه لا يُفعَّل عملُه إلاَّ في وجود قانونٍ يصدر من الجهة القانونية (القضائية) يجب تنفيذُه ويحظر مخالفتُه، وسُلطويّ لأنه مادام يلتزم بالقوانين بما في ذلك قوانين حماية الإنسان، فيجب على جميع أفراد الشعب معاونته في أداء عمله والاستجابة له، وله كامل الحق في استخدام كافة وسائل المواجهة ضد المجرمين والقتلة. ويجب أن يكون أفراد الشرطة وكذلك أفراد الشعب على قناعةٍ تامَّةٍ بذلك. والتحدِّي الأكبر أمام رجال الشرطة أن يُثبتوا للشعب أنهم منه، وينبُذون من داخلهم كلَّ فاسدٍ نَفْعِيّ، يضرُّ بمصلحة هذا الشعب.
وأما المواجهة الثالثة فهي المواجهة بين التيارات السياسية المختلفة، وهي لن تكون إلا مواجهةً فكرية. فليواجه الإسلاميُّ الليبراليَّ وغيرَه بما شاء من أفكار، وليواجه الاشتراكيَّ الرأسماليُّ بما شاء، وليتنافسوا أحزابًا حول مقاعد البرلمان، ولنترك اختيارَ الأصلح للشعب. وليُخطئ الشعبُ في اختياره لممثِّليه في البرلمان أو في اختياره لرئيسه، ثم لا يلبث سنواتٍ ويتدارك أمره، ما دمنا نعيش في ديمقراطيةٍ وتداولٍ للسلطة.
 ولنعِش على هذا الوطن أخوةً متحابين، لا نبتغي سوى رفعته، ولا نرجو سوى الأمان والخير لكلِّ أبنائه، وإن كان لكلٍّ منَّا مشربُه وتوجهُه المختلف عن الآخر.
 ولنتذكر جيدًا أنَّنا ورثنا عن شهداء هذه الثورة المجيدة كنـزًا لا ينبغي علينا أن نضيِّعه كما ضاعت من مصر كنوزٌ عظيمةٌ من قبل؛ لأنَّ هذا الكنـز هو أغلاها وأعظمها على الإطلاق. إنَّه "كنـز الحريَّة" الذي – أزعمُ- أنه لم يعرفه آباؤنا ولا أجدادنا.
 فعارٌ علينا أن نفرِّط فيه، ولنتعاهد جميعًا ألاَّ نُسلِّم مصر إلى أبنائنا إلاَّ وهي حرَّةٌ ومتحضرةٌ ومتقدمة؛ ليحيوا على أرضها أحرارًا.   

ليست هناك تعليقات: