۞ التائهون بين الدولة الدينية والدولة المدنية



بقلم: أحمد عبد الرحيم
 لعلَّ من أهم أولويات تلك المرحلة المضطربة من تاريخ مصر (مرحلة التحول، أن تتضح أمامنا المفاهيم كلُّها بلا لبسٍ ولا احتمال تأويل؛ إذ إنَّ ذلك سيترتَّب عليه رسم صورةٍ للمستقبل الذي نأملُ جميعًا أن يكون أفضل من الماضي المظلم الذي عشنا فيه عقودًا من الظلم والقهر والاضطهاد والتخلُّف.
ومن أعقد هذه المفاهيم، وأكثرها جدلاً، وأعمقها خطورةً وأثرًا فى المستقبل؛ مفهوما الدولة الدينية والدولة المدنية. ومهما حاول البعض أن يُقنع نفسه قبل أن يقنع الآخرين أنَّ الحرية والمواطنة واحترام الدستور والقانون هم الدعائم الثلاثة التي لن تقوم لمصر قائمةٌ بدونهم، وترسيخهم ولا شك من أوليات المرحلة القادمة. فإنه من جانب آخر لا يمكن لكائنٍ مَن كان أن يتغافل أو يتعامى عن دور الدين ومكانته وأثره في حياة المصريين مسلمين كانوا أم مسيحيين.
من هنا كان التساؤل: هل نحن قادمون على دولةٍ دينيةٍ أم دولةٍ مدنية؟
وللإجابة على هذا السؤال ينبغي أن نضع إطارًا لكلٍّ من الدولة الدينية والدولة المدنية بمفهومهما السياسي.
-    الدولة الدينية ونظام الحكم فيها:
نظام الحكم في الدولة الدينية نظامٌ "ثيوقراطي" قائمٌ على أساسٍ دينيّ، يؤسِّس لحكم طبقة رجال الدين. والسلطةُ في هذا النظام تكون لرجال الدين فقط، بوصفهم ظل الله في الأرض، كما هو الحال في إيران كمثالٍ للدولة الدينية المنسوبة للإسلام، أو بوصفهم الحق الإلهي المقدَّس كما هو الحال في أوربا في العصور الوسطى كمثالٍ للدولة الدينية المنسوبة للمسيحية.
ولا خلاف بين الحالتين فيما تكتسبه السلطة في الدولة الدينية من قداسة وعصمة، ولا خلاف أيضًا في أنَّ هذين النموذجين لا علاقة لهما بنظام الحكم في الشريعة الإسلامية أو الشريعة المسيحية، اللتين من جملة شرائعهما العدل والتسامح وحرية الاعتقاد وقبول الآخر.
ولعل أكبر مساوئ الدولة الدينية تتجلَّى في قمع الحريات والقهر من جهة الحاكم للمحكوم، في حين أن الحاكم فيها يتعالى عن المحاسبة والمساءلة؛ إذ إنه ينطق باسم الله.
وما حدث في أوربا في العصور الوسطى من محاكم فاتيكانية، ومحارق قادتها رجال الكنيسة لمن اتُّهم بالهرطقة؛ كفيلٌ بتوضيح ما تقدم. ولنمثِّل بحرق عالم الفلك "غيوردانو برونو" عام 1600م حينما اتُّهم بخرق قواعد الدين، ورُبط في عمودٍ وأُشعل فيه النار.
وكان من توابع ذلك القهر قيام الثورة الفرنسية عام 1789م التي أسقطت الدولة الدينية في أوربا، وأعقبها الفصل تمامًا بين الدين والدولة، وإعلاء فكرة علمانية الدولة، التي تفصل بين كلِّ ما هو دينيّ وكلِّ ما هو سياسي، وسُمِّي ذلك بعصر التنوير، ومن هنا ظهرت العلمانية وتأكَّد مصطلحها.
وقد ناقش البرلمان الفرنسي مفهوم العلمانية أثناء إعداده دستور عام 1946م، وعرَّف العلمانية أنها: (حياد الدولة حيال الديانات). فلا يأتي أحدٌ ليقول لنا: إن العلمانية ليست ضد الدين!!! إلا من لا يعرفُ معنى الدين أصلاً، فهذا جهله سابقٌ لعذره.
-    الدولة المدنية ونظام الحكم فيها:
إن كانت الدولة الدينية نظامُها قائمٌ على السلطة المطلقة لرجل الدين الذي هو ظلُّ الله في الأرض أو الحق الإلهي المقدس؛ فإن الدولة المدنية نظامُها قائمٌ على أن "الأمة هي مصدر السلطات، ولا يحقُّ للسلطة التشريعية التي ينتخبها الشعب أن تسلِّم صلاحية وضع القوانين لأي جهة سوي الجهة التي يختارها الشعب. وهدف القوانين التشريعية في الحكم المدني هو حماية خيرات الشعب، والحفاظ على سلامته. وعليه فجميع المواطنين متساوون لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات، وهو ما عُرف فيما بعد بمبدأ المواطنة. والحكم المدني يحترم كافَّة حقوق المواطنين، ويكفل حرياتهم، سواء في القناعات الشخصية، أو المعتقدات الدينية، أو الانتماءات السياسية.
(جون لوك: في الحكم المدني، 225: 235).
ومن هنا فإن الدولة المدنية تقوم على مبدأين أساسيين: مبدأ المواطنة ومبدأ الحرية.
الإسلام والدولة الدينية:
في البداية ينبغي أن يُعلم أنَّ ما تقدَّم من الحديث عن الدولة الدينية فيما تعارف عليه السياسيون، لا يعني أبدًا الحديث عن النظام الإسلامي للحكم، وهذا ما يُحدِث لبسًا وخلطًا وسوءَ فهمٍ عند كثيرٍ ممَّن  يسمُّون مثقفين فضلاً عن باقي الناس؛ فيُتَّهم الرافضون للدولة الدينية والمعارضون لها بالمعادين للدين، وعلى الجانب الآخر نجدُ الرافضين للدين كليًّا يُقحمون الإسلام وشرائعه زورًا وبهتانًا، ويحاربونه بذريعة محاربة الدولة الدينية؛ ترهيبًا للناس ممَّا قد يؤول إليه الأمر إذا صارت الدولة دولةً دينيةً على غرار إيران؛ فالنتيجة أن يُقهر الإنسان باسم الدين.
وقد أنتج لنا ذلك صنفًا ثالثًا من الناس، وهم الرافضون أن يُتهم الدين بالتسلُّط ومعادات الحرية وقهر المخالفين، فيُسرعون إلى القول بإن: (الإسلام لا يعرف الدولة الدينية، وإنما يعرف الدولة المدنية). دون توضيح لهذه الجملة الخطيرة والصحيحة في مبناها ومعناها، إلا أنها تحتمل من التأويلات ما قد يوقعنا فيما لا يُحمد عقباه، ويصدق علينا المثل القائل: جنت على نفسها براقش!!!
لا يستطيعُ أحدٌ أن يزعم أن التاريخ الإسلامي لم يعرف الدولة الدينية بالمفهوم الثيوقراطي، وإنما الحقُّ أنَّ التاريخ الإسلامي شهد نماذج لهذه الدولة الدينية المظلمة، وكان أولها الدولة الفاطمية الإسماعيلية التي ظهرت في تونس، ورسَّخت دعائم دولتها في مصر على مدى ثلاثة قرون، وكذلك الدولة الصفوية الاثنى عشرية في فارس، والنموذج الثالث في العصر الحديث هي دولة إيران.
ولم يعرف التاريخ الإسلامي سوى هذه الدول الثلاثة كنماذج إسلامية للدولة الدينية.
والمتأمل في حال هذه الدول يرى أنها كلَّها دولٌ شيعية أي من صميم عقيدتها (أصل الإمامة)، الذي يتبعه بالضرورة فكرة خلفاء الإمام الغائب وآيات الله العظمى المعصومة، وما يتبع ذلك، مما هو غير موجودٍ أصلاً في الإسلام، وإنما هي فرقٌ ومذاهبُ منحرفةٌ ذاتُ عقائد باطلة. فمنذ وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا وخلفاء النبي هم خلفاء له لا خلفاء لله، وهم بشرٌ يخطئون ويصيبون، وللأمة توليتهم وعزلهم؛ ولذلك فلم يختر النبي صلى الله عليه وسلم له خليفة، وإنما ترك للأمة من بعده اختياره، وكذلك فعل أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، بل ونصَّ القرآن على أنه: "وأمرهم شورى بينهم". وأما ما حدث من تجاوزات ترقى بعضها إلى حدِّ الظلم والطغيان من بعض أئمة المسلمين (حكَّامهم) في العصور المختلفة، فهو جورُ حاكم، وظلم خليفة، ولا يعدو ذلك إلى كونه ظلاًّ لله في الأرض أو نائبًا عنه. والتاريخ حَكَمٌ في ذلك.

خلاصة القول:
ينبغي لكلِّ منصفٍ أن يفرِّق عن درايةٍ وعلم بين الدولة الدينية ونظام
الحكم في الإسلام، فشتَّان بينهما.
 ولا ينبغي أن نقف عند قولنا: إن الإسلام لا يعرف الدولة الدينية
دون توضيح للسامع وبيان؛ فالعبارة موهمة، واحتمال الخطأ في فهمها
أقرب من احتمال إصابته، وسيوقعنا ذلك في خلط وجهل وافتراء.   






هناك 4 تعليقات:

أرنوب يقول...

أنَّ الحرية والمواطنة واحترام الدستور والقانون هم الدعائم الثلاثة التي لن تقوم لمصر قائمةٌ بدونهم، وترسيخهم ولا شك من أوليات المرحلة القادمة
......
هذا هو (مربط الفرس).. لكن .. من يضمن أن يحافظ من سيأتي إلى سدة الحكم عليه ؟ .. هو مش المخلوع برضه عدل في الدستور وبهدله عشان يورث المحروس ؟ حد قاله ساعتها تلت التلاته كام ؟ .. واحد يرد يقولك : ماهو الدستور ممكن يتعدل (بصفته ليس كتابا منزلاً) بشرط تستفتي الشعب على هذا التعديل فيرفضه أو يقبله .. لكن طبعاً الحاكم الذي طاوعه ضميره على العبث بالدستور من أجل مصلحته الخاصة لن يتورع عن العبث بارادة المصوتين أيضاً فيزور الإستفتاء لصالح رغبته .. طيب أيه الحل ؟ ..
الحل فيما أعتقد أن تكون هناك مواد في الدستور (مقدسة) لا يجوز لأية جهة حاكمة أن تعبث بها أو تضيف أو تحذف .. وأعني المواد المتعلقة بتداول السلطة والمواطنة وسيادة القانون - بلا إستثناء - على الجميع فهي الركائز التي بدونها لا دولة هناك وأنما قبيلة همجية جاهلية كما أسلفتم في مدونتكم
جميل .. لكن ماهو (الإجراءالعملي) الذي يضمن لهذه المواد القداسة والحماية .. الإجابة هي في كلمة واحدة : الجيش .. أكرر .. الجيش .. لا أقصد - طبعاً - أن يتولى الجيش الحكم ولكن أن (يحرس) تلك المواد شأنها شأن حدود الوطن تماماً وذلك بأن يتضمن الدستور الجديد القادم مادة تلزم الجيش بهذه الحماية وتمكنه من عزل أي حاكم تسول له نفسه العبث بها .. وهكذا لن يكون هناك أي توجس من وصول جهة معينة للحكم إذ سيحكمها - هي وغيرها - هذا المبدأ العام

عندما ينطق القلم يقول...

تحياتي لك أستاذي العزيز، ولا أختلف معك في الطرح العام أما في التفاصيل: فأنا أظن أن قداسة الدستور ككل لا بعض مواده وحماية الجيش لشرعيته وتطبيقه، هذا أمر حتمي في كل الدول الديمقراطية مادام هذا الدستور قد ارتضاه الشعب وصوت بقبول مواده، وأما التخوف من أن الحاكم قد تسول له نفسه بالعبث بالدستور أو تزوير إرادة الشعب، فأعتقد أن ذاك الزمان ولى وانتهى فلا بقاء لأحد أكثر من مدتين، ولا تزوير في استفتاء أو انتخاب مادام القضاء يشرف عليه، وقداسة الدستور هنا ككل هي بالطبع قداسة بشرية يمكن أن تتغير إذا ارتأى الشعب عدم تناسب بعض مواده، ولكن سياده القانون وتداول السلطة والمواطنة فلا يقلق أحد على تغييرهم إلا إذا اختار الناس كما ذكرت العيش القبلي الهمجي ووقتها فلهم هذا وهم أحرار فيما ارتضوه لأنفسهم ولن يحدث في نظري ذلك في مصر.

أرنوب يقول...

فلا بقاء لأحد أكثر من مدتين،
.....
جميل .. لكن ماذا لو كان التعديل يخص هذه المادة بالتحديد ؟ بمعنى أن (جهة ما) سوف تقنع الشعب بأن مسألة تداول السلطة هذه ما هي إلا بدعة غربية لا أصل لها في (تراثنا) الذي يؤكد على مبدأي البيعة والخلافة حتى الموت .. وأن من يعترض على هذا كافر بالضبط مثل الذي صوت بلا في الإستفتاء الأخير .. ما العمل ساعتها خصوصاً وأن نتيجة تصويت الشعب وقتها ستأتي - وبدون تزوير - تسعة وتسعين بالمائة لصالح إلغاء تداول السلطة ؟

عندما ينطق القلم يقول...

تساؤلاتك تدفعني للتفكير والتأمل معًا، ما دمنا سيدي نحيى فسنصطدم بآراء تخالفنا وهنا وجب علينا البحث في أمرين: الأول منطق قائلها، والأمر الثاني كيفية مواجهتها والتعامل معها. ما طرحته بقولك: " مسألة تداول السلطة هذه ما هي إلا بدعة غربية لا أصل لها في (تراثنا" نعم قد يقول ذلك البعض وإن كنت متأكدًا أن ما كان يُقال من تلك الجهة التي أشرت إليها وهم الإسلاميين إخوان كانوا أم سلفيين بدأ الكثير منهم تدريجيًا يغير فهمه لأمور كثيرة، وينبغي علينا محاورتهم واقناعهم بما نراه مخالف لما ترسخ عندهم من مفاهيم. منها أنه ليس كل ما جاء في تراثنا وجب علينا الالتزام به حتى وإن كان له وجاهته وثبت نجاحه في عصره؛ لأننا نعيش في زمن غير الزمن الذي عاشوا فيه ومن ذلك مبدأ البيعة والخلافة حتى الموت كما ذكرت. وأكرر عليك هم ليسوا بالسوداوية التي يراد لنا أن نراهم بها. أما قولك : " من يعترض على هذا كافر" لا يجرأ على قول ذلك من السلفيين إلا جاهل أو أحمق وعمومهم لا يقولون ذلك ولا يتعاملون بمنطق التكفير هذا ولم يحدث ذلك منهم في الاستفتاء وأقسم على ذلك وينبغي لنا أن نتحاور مع من يخالفنا بالمنطق والحجة والاقناع لا بمنطق التخوين والافتراء وهذه سمات الفارس النبيل. ولنا أن نتساءل معًا ونبحث عن إجابة لماذا نحن خائفين من سطوة السلفيين والإخوان على الشارع المصري وقدرتهم على شحنه وحشده وإقناعه؟ لابد أن هناك سبب أ, أسباب عديدة ملخصها من جهتين إما أنهم على حق ويستطيعون إقناع الناس به وهنا وجب علينا كمنصفين احترامهم واحترام نظرة الناس لهم، وإما أنهم على باطل ولكنهم بارعون في إقناع الناس بالزيف الذي عندهم. وهنا وجب علينا مواجهتهم وتوعية الناس بخطرهم وخطر تفكيرهم وتوجهاتهم. وفي الحالتين لنا دور يجب علينا القيام به. وإلا فهو سباق والرابح فيه فقط... القوي!!!